فصل: تفسير الآية رقم (3):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نيل المرام من تفسير آيات الأحكام



.تفسير الآية رقم (3):

الآية الثالثة:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)}.
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ}: هذا شروع في تفصيل المحرمات التي أشار إليها سبحانه بقوله: {إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ} [المائدة: 1].
{الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} تقدم الكلام على ذلك في البقرة، وما هنا من تحريم مطلق الدم، مقيد بكونه مسفوحا- لما تقدم حملا للمطلق على المقيد.
وقد ورد في السنة تخصيص الميتة بقوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «أحل لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان: الكبد والطحال».
أخرجه الشافعي وأحمد وابن ماجه والدارقطني والبيهقي، وفي إسناده مقال.
ويقويه الحديث: «هو الطهور ماؤه، والحل ميتته»، وهو عند أحمد وأهل السنن وغيرهم، وصححه جماعة منهم ابن خزيمة وابن حبان.
وقد أطال الشوكاني الكلام عليه في شرحه للمنتقى وغيره في غيره.
{وَالْمُنْخَنِقَةُ} هي التي تموت بالخنق، وهو حبس النّفس، سواء كان ذلك بفعلها كأن تدخل رأسها في حبل، أو بين عودين، أو بفعل آدمي، أو غيره. وقد كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة، فإذا ماتت أكلوها.
{وَالْمَوْقُوذَةُ} هي التي تضرب بحجر أو عصا حتى تموت، من غير تذكية. يقال: وقذه يقذه وقذا فهو وقيذ.
والوقذ: شدة الضرب. وقد كان أهل الجاهلية يفعلون ذلك، فيضربون الأنعام بالخشب لآلهتهم حتى تموت ثم يأكلونها.
قال ابن عبد البر: واختلف العلماء قديما وحديثا في الصيد بالبندق والحجر والمعراض.
ويعني بالبندق: قوس البندقة.
وبالمعراض: السهم الذي لا ريش له، أو العصا التي رأسها محدد، قال: فمن ذهب إلى أنه وقيذ، لم يجزه إلا ما أدرك ذكاته، على ما روي عن ابن عمر، وهو قول مالك وأبي حنيفة وأصحابه، والثوري والشافعي. وخالفهم الشاميون في ذلك، قال الأوزاعي في المعراض: كلّه خرق أو لم يخرق فقد كان أبو الدرداء وفضالة بن عبيد وعبد اللّه بن عمر ومكحول لا يرون به بأسا.
قال ابن عبد البر: هكذا ذكر الأوزاعي عن عبد اللّه بن عمر. والمعروف عن ابن عمر ما ذكر مالك عن نافع، قال: والأصل في هذا الباب والذي عليه العمل وفيه الحجة حديث عدي بن حاتم وفيه: «ما أصاب بعرضه فلا يأكل فإنه وقيذ». انتهى.
قلت: والحديث في الصحيحين وغيرهما عن عدي قال: «قلت يا رسول اللّه إني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب؟ فقال: إذا رميت المعراض فخرق فكله، وإن أصاب بعرضه فإنما هو وقيذ فلا تأكله».
فقد اعتبر صلّى اللّه عليه وآله وسلّم الخرق وعدمه، فالحق أنه لا يحل إلا ما خرق لا ما صدم، فلا بد من التذكية قبل الموت، وإلا كان وقيذا.
قال الشوكاني في فتح القدير: وأما البنادق المعروفة الآن، وهي بنادق الحديد، التي يجعل فيها البارود والرصاص، ويرمى بها، فلم يتكلم عليها أهل العلم لتأخر حدوثها، فإنها لم تصل إلى الديار اليمنية، إلا في المائة العاشرة من الهجرة، وقد سألني جماعة من أهل العلم عن الصيد بها إذا مات، ولم يتمكن الصائد من تذكيته حيا؟ والذي يظهر لي أنه حلال، لأنها تخرق وتدخل- في الغالب- من جانب منه، وتخرج من الجانب الآخر.
وقد قال صلّى اللّه عليه وآله وسلّم في الحديث الصحيح السابق: «إذا رميت بالمعراض فخرق فكله»، فاعتبر الخرق في تحليل الصيد. انتهى.
قلت: وقد سبقه إلى ذلك السيد العلامة محمد بن إسماعيل الأمير حيث قال في سبل السلام شرح بلوغ المرام: قلت: وأما البنادق المعروفة الآن فإنها ترمي بالرصاص، فيخرج وقد صهرته نار البارود كالميل، فيقتل بحده لا بصدمه، فالظاهر حل ما قتله. انتهى.
وتعقبه ولده العلامة السيد عبد اللّه محمد الأمير وقال: هذا وهم من والدي- قدس اللّه تعالى روحه- فإن الرصاص لا يذوب أصلا، إنما تدفعه نار البارود، فيصيب بصدمة، يعرف هذا كل من يعرف البنادق المذكورة، واللّه أعلم. انتهى.
أقول: التحقيق أن النار تدفع الرصاص أولا، فيصيب الصيد، ثم يخرق الرصاص الصيد، فيموت الصيد بخرقه. فيكون حلالا كما احتج به الشوكاني. واللّه أعلم.
{وَالْمُتَرَدِّيَةُ}: هي التي تتردى من علو إلى أسفل، فتموت من غير فرق، بين أن تتردى من جبل، أو بئر، أو مدفن، أو غيرها.
والتردي مأخوذ من الردى وهو الهلاك، وسواء تردت بنفسها أو ردّاها غيرها.
{وَالنَّطِيحَةُ} هي فعلية بمعنى مفعولة، وهي التي تنطحها أخرى فتموت من دون تذكية. وقال قوم إنها فعلية بمعنى فاعلة لأن الدابتين تتناطحان فتموتان. وقال: نطيحة ولم يقل نطيح، مع أنه قياس فعيل لأن لزوم الحذف مختص بما كان من هذا الباب، صفة لموصوف مذكور، فإن لم يذكر ثبتت التاء للنقل من الوصفية إلا الاسمية.
وقرأ أبو ميسرة: والمنطوحة.
{وَما أَكَلَ السَّبُعُ}: أي وحرم ما افترسه ذو ناب، كالأسد والنمر والذئب والضبع ونحوها. والمراد هنا ما أكل منه السبع، لأن ما أكله السبع كله قد فني، ومن العرب من يخص اسم السبع بالأسد، وكانت العرب إذا أكل السبع الشاة، ثم خلصوها منه أكلوها، وإن ماتت ولم يذكوها.
{إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ} في محل نصب على الاستثناء المتصل عند الجمهور، وهو راجع على ما أدركت ذكاته من المذكورات سابقا وفيه حياة.
وقال المدنيون: وهو المشهور من مذهب مالك، وهو أحد قولي الشافعي: إنه إذا بلغ السّبع منها إلى ما لا حياة معه، فإنها لا تؤكل. وحكاه في الموطأ عن زيد بن ثابت، وإليه ذهب إسماعيل القاضي، فيكون الاستثناء على هذا القول منقطعا أي حرمت عليكم هذه الأشياء، لكن ما ذكيتم فهو الذي يحل ولا يحرم. والأول أولى.
والذكاة في كلام العرب: الذبح. قاله قطرب وغيره. وأصل الذكاة في اللغة: التمام، أي تمام استكمال القوة.
والذكاء: حدة القلب، وسرعة الفطنة.
والذكاة: ما تذكى به النار، ومنه أذكيت الحرب والنار أوقدتهما.
وذكاء: اسم الشمس.
والمراد هنا إلا ما أدركتم ذكاته على التمام.
والتذكية في الشرع: عبارة عن انهمار الدم، وفري الأوداج في المذبوح، والنحر في المنحور، والعقر في غير المقدور، مقرونا بالقصد للّه، وذكر اسمه عليه.
وأما الآلة التي تقع بها الذكاة، فذهب الجمهور إلى أن كل ما أنهر الدم، وفرى الأوداج، فهو آلة للذكاة، ما خلا السن والعظم، وبهذا جاءت الأحاديث الصحيحة.
{وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ}: قال ابن فارس: النصب: حجر كان ينصب فيعبد، وتصب عليه دماء الذبائح.
والنصائب: حجارة تنصب حوالي شفير البئر فتجعل عضائد، وقيل: النصب جمع واحده نصاب، كحمار وحمر، قرأ طلحة بن مصرف: بضم النون وسكون الصاد. وروي عن أبي عمرو: بفتح النون وسكون الصاد. وقرأ الجحدري: بفتح النون والصاد، جعله اسما موحدا كالجبل والجمل، والجمع أنصاب كالأجبال والأجمال.
قال مجاهد: هي حجارة كانت حوالي مكة، يذبحون عليها.
قال ابن جرير: كانت العرب تذبح بمكة، وتنضح بالدم ما أقبل من البيت، ويشرحون اللحم، ويضعونه على الحجارة، فلما جاء الإسلام، قال المسلمون للنبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: نحن أحق أن نعظم هذا البيت بهذه الأفعال فأنزل اللّه: {وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ}.
والمعنى: والنية بذلك تعظيم النصب لأن الذبح عليها غير جائز. ولهذا قيل: إن على بمعنى اللام، أي: لأجلها. قاله قطرب، وهو على هذا داخل في غير ما أهلّ به لغير اللّه، وخص بالذكر لتأكيد تحريمه، ولدفع ما كانوا يظنونه من أن ذلك لتشريف البيت وتعظيمه، وقيل: معناه ما قصد بذبحه تعظيم النصب، وإن لم يذكر اسمها عنده، فليس مكررا مع ما سبق، إذ ذاك فيما ذكر عند ذبحه اسم الصنم مثلا. فتأمل.
{وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا}: معطوف على ما قبله، أي وحرم عليكم الاستقسام.
{بِالْأَزْلامِ} وهي: قداح الميسر، واحدها زلم.
والأزلام للعرب ثلاثة أنواع:
أحدها: مكتوب فيه أفعل.
والآخر: مكتوب لا تفعل.
والثالث: مهمل لا شيء عليه، فيجعلها في خريطة معه، فإذا أراد فعل شيء أدخل يده- وهي متشابهة- فأخرج واحدا منها، فإن خرج الأول فعل ما عزم عليه، وإن خرج الثاني تركه، وإن خرج الثالث، أعاد الضرب حتى يخرج واحد من الأولين.
قال الزجاج: لا فرق بين هذا وبين قول المنجمين: لا تخرج من أجل نجم كذا واخرج لطلوع نجم كذا، وإنما قيل لهذا الفعل: استقسام لأنهم كانوا يستقسمون به الرزق وما يريدون فعله، كما يقال استسقى أي استدعى السقيا.
فالاستقسام: طلب القسم والنصيب.
وجملة قداح الميسر عشرة، وكانوا يضربون بها في المقامرة.
وقيل: إن الأزلام: كعاب فارس والروم التي يتقامرون بها، وقيل: هي الشطرنج.
وإنما حرم اللّه الاستقسام بالأزلام لأنه تعرض لدعوى علم الغيب، وضرب من الكهانة.
{ذلِكُمْ فِسْقٌ}: إشارة إلى الاستقسام بالأزلام، أو إلى جميع المحرمات المذكورة هنا.
والفسق: الخروج عن الحد، وهذا وعيد شديد لأن الفسق هو أشد الكفر! لا ما وقع عليه اصطلاح قوم من أنه منزلة بين الإيمان والكفر.
قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ}: هذا متصل بذكر المحرمات، وما بينهما اعتراض وقع بين الكلامين للتأكيد، فإن تحريم هذه الخبائث من جملة الدين الكامل، أي من دعته الضرورة.
{فِي مَخْمَصَةٍ}: أي مجاعة، إلى أكل الميتة وما بعدها من المحرمات.
والخمص: ضمور البطن، ورجل خميص وخمصان، وامرأة خميصة وخمصانة، ومنه أخمص القدم. ويستعمل كثيرا في الجوع.
{غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ} الجنف: الميل.
والإثم: الحرام، أي حال كون المضطر في مخمصة غير مائل لإثم، وهو بمعنى غير باغ ولا عاد. وكل مائل فهو متجانف وجنف.
{فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ له رَحِيمٌ (3)} به، لا يؤاخذه بما ألجأته إليه الضرورة في الجوع، مع عدم ميله بأكل ما حرم عليه إلى الإثم بأن يكون باغيا على غيره، أو متعديا لما دعت إليه الضرورة.

.تفسير الآية رقم (4):

الآية الرابعة:
{يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (4)}.
{قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ}: هي ما يستلذ أكله، ويستطيبه أصحاب الطبائع السليمة، مما أحله اللّه لعباده، أو لم يرد نصّ بتحريمه.
وقيل: هي الحلال، وقيل: الطيبات الذبائح لأنها طابت بالتذكية، وهو تخصيص للعام بغير مخصص، والسبب والسياق لا يصلحان لذلك.
{وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ}: معطوف على الطيبات، بتقدير مضاف لتصحيح المعنى، أي أحل لكم صيد ما علّمتم من أمر الجوارح والصيد بها.
قال القرطبي: قد ذكر بعض من صنف في أحكام القرآن: أن الآية تدل على أن الإباحة تناولت ما علّمنا من الجوارح، وهو ينتظم الكلب وسائر جوارح الطير، وذلك يوجب إباحة سائر وجوه الانتفاع، فدل على جواز بيع الكلب، والجوارح، والانتفاع بها بسائر وجوه المنافع، إلا ما خصه الدليل، وهو الأكل من الجوارح: أي الكواسب من الكلاب وسباع الطير.
قال: وأجمعت الأمة، على أن الكلب- إذا لم يكن أسود، وعلّمه مسلم، ولم يأكل من صيده الذي صاده، أو أثّر فيه بجرح، أو تنييب، وصاد به مسلم، وذكر اللّه عند إرساله- صيده صحيح، يؤكل بلا خلاف. فإن انخرم، شرط من هذه الشروط دخل الخلاف، فإن كان الذي يصاد به غير كلب كالفهد وما أشبهه، وكالبازي والصقر ونحوهما في الطير، فجمهور الأمة على أن كل ما صاد بعد التعليم فهو جارح كاسب.
يقال: جرح فلان واجترح، إذا اكتسب، ومنه الجارحة لأنه يكتسب بها، ومنه قوله تعالى: {وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ} [الأنعام: 60]، وقوله: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ} [الجاثية: 21].
{مُكَلِّبِينَ}: حال، والمكلب: معلّم الكلاب كيفية الاصطياد. وخص معلم الكلاب، وإن كان معلم سائر الجوارح مثله، لأن الاصطياد بالكلاب هو الغالب. ولم يكتف بقوله: {وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ}- مع أن التكليب هو التعليم- لقصد التأكيد لما لابد منه من التعليم.
وقيل إن السبع يسمى كلبا، فيدخل كل سبع يصاد به، وقيل: إن هذه الآية خاصة بالكلاب.
وقد حكى ابن المنذر عن ابن عمر أنه قال: ما يصاد بالبزاة وغيرها من الطير، فما أدركت ذكاته فهو حلال، وإلا فلا تطعمه.
قال ابن المنذر: وسئل أبو جعفر عن البازي هل يحل صيده؟ قال: لا! إلا أن تدرك ذكاته.
وقال الضحاك والسدي: {وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ}: هي الكلاب خاصة.
فإن كان الكلب الأسود بهيما، كره صيده الحسن وقتادة والنخعي.
وقال أحمد: ما أعرف أحدا يرخص فيه إذا كان بهيما، وبه قال ابن راهويه.
فأما عامة أهل العلم بالمدينة والكوفة فيرون جواز صيد كل كلب معلم، واحتج من منع من صيد الكلب الأسود بقوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «الكلب الأسود شيطان» أخرجه مسلم وغيره.
والحق أنه يحل صيد كل ما يدخل تحت عموم الجوارح من غير فرق بين الكلب وغيره، وبين الأسود من الكلاب وغيره، وبين الطير وغيره.
ويؤيد هذا أن سبب نزول الآية سؤال عدي بن حاتم عن صيد البازي.
{تُعَلِّمُونَهُنَّ}: أي تؤدبونهن. والجملة في محل نصب على الحال.
{مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ}: أي مما أدركتموه بما خلقه فيكم من العقل، الذي تهتدون به إلى تعليمها وتدريبها، حتى تصير قابلة لإمساك الصيد لكم عند إرسالكم له.
{فَكُلُوا}: الفاء للتفريع، والجملة متفرعة على ما تقدم من تحليل صيد ما علّموه من الجوارح، و(من) في قوله: {مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} للتبعيض، لأن بعض الصيد لا يؤكل، كالجلد والعظم، وما أكله الكلب ونحوه.
وفيه دليل على أنه لابد أن يمسكه على صاحبه، فإن أكل منه فإنما أمسكه على نفسه، كما في الحديث الصحيح.
وقد ذهب الجمهور إلى أنه لا يحل أكل الصيد الذي يقصده الجارح من تلقاء نفسه من غير إرسال.
وقال عطاء بن أبي رباح والأوزاعي- وهو مروي عن سلمان الفارسي وسعد بن أبي وقاص وأبي هريرة وعبد اللّه بن عمر، وروي عن علي وابن عباس والحسن البصري والزهري وربيعة ومالك والشافعي في القديم- إنه يؤكل صيده.
ويرد عليهم قوله تعالى: {مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}، وقوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لعدي بن حاتم: «إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم اللّه عليه فكل ما أمسك عليك»، وهو في الصحيحين وغيرهما.
وفي لفظ لهما: «فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه».
وأما ما أخرجه أبو داود بإسناد جيد من حديث أبي ثعلبة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم اللّه فكل وإن أكل منه».
وقد أخرجه أيضا بإسناد جيد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وأخرجه أيضا النسائي.
فقد جمع بعض الشافعية بين هذه الأحاديث: بأنه إن أكل عقب ما أمسك، فإنه يحرم، لحديث عدي بن حاتم وإن أمسكه ثم انتظر صاحبه، فطال عليه الانتظار، وجاع فأكل من الصيد لجوعه- لا لكونه أمسكه على نفسه- فإنه لا يؤثر ذلك ولا يحرم به الصيد. وهذا جمع حسن.
وقال آخرون: إنه إذا أكل الكلب منه حرم، لحديث عدي، وإن أكل غيره لم يحرم للحديثين الآخرين.
وقيل يحمل حديث أبي ثعلبة على ما إذا أمسكه وخلاه ثم عاد فأكل منه. وقد سلك كثير من أهل العلم طريق الترجيح، ولم يسلكوا طريق الجمع، لما فيها من البعد.
قالوا: وحديث عدي بن حاتم أرجح لكونه في الصحيحين. وقد قرر الشوكاني هذا المسلك في شرح المنتقى بما يزيد الناظر فيه بصيرة.
{وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} الضمير في عليه يعود إلى {وَما عَلَّمْتُمْ}، أي سموا عليه عند إرساله أو لما أمسكن عليكم: أي سموا عليه إذا أردتم ذكاته.
وقد ذهب الجمهور إلى وجوب التسمية عند إرسال الجارح، واستدلوا بهذه الآية، ويؤيده حديث عدي بن حاتم الثابت في الصحيحين وغيرهما بلفظ: «إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم اللّه، وإذا رميت بسهمك فاذكر اسم اللّه».
وقال بعض أهل العلم: إن المراد التسمية عند الأكل. قال القرطبي: وهو الأظهر.
واستدلوا بالأحاديث التي فيها الإرشاد إلى التسمية، وهذا خطأ فإن النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قد وقّت التسمية بإرسال الكلب، وإرسال السهم، ومشروعية التسمية عند الأكل حكم آخر، ومسألة غير هذه المسألة، فلا وجه لحمل ما ورد في الكتاب والسنة هنا، على ما ورد في التسمية عند الأكل، ولا ملجئ إلى ذلك.
وفي لفظ في الصحيحين من حديث عدي: «إن أرسلت كلبك وسميت فأخذ فكل». وقد ذهب جماعة إلى أن التسمية شرط، وذهب آخرون إلى أنها سنة فقط، وذهب جماعة إلى أنها شرط على الذاكر لا الناسي. وهذا أقوى الأقوال وأرجحها.